بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَََ
الصّفحة العربيّــة
Portugus - Brazil Espanol - Chile Français English

حياة الشيخ مولاي أحمد بن مصطفى العلاوي بقلمه

الصّفحة 6

فقلت له :"دع كلام المغاربة للمغاربة وايتنا بكلام المشارقة". فقال :"إن القائل قال (عمّ الوجود) فلم يخص غرباً ولا شرقاً". فعلمت إذ ذاك أن الرجل مستغرق في الفن المُشار إليه، فقعد معنا سُويعات في تلك الليلة والرغبة آخذة بمجامعه، فرأيته ينصت بكل جوارحه، ثم استأذننا في الذهاب على شرط أن نزوره غداً في بمحل عمله الرسمي، ومن الغد واصلناه إلى محله، أعني إدارة الواردات البحرية، لأنه كان رئيساً بتلك الإدارة، فتلقانا بمزيد السرور وأمر بتعطيل الأشغال وتسريح الكتاب، مع أنها كانت أشغالاً جمةً. ثم انفردنا ناحية وجالت بيننا عدة مُذاكرات في شؤون من علم القوم يطول ذكرها، ومما يحسن ذكره أنه قال لي :"إن شئت المُكث ببلادنا فهاهي الزاوية عليك حبس، وما حاذاها من الحوانيت، وأنا أكون خادماً لحضرتكم". وقد كنت أعلم الصدق من جميع مقاله، فوعدته على أن أنتقل إلى هناك، وتجولت في البلد ساعة فوجدت في نفسي ميلاً لذلك الوسط كأنه طبيعي، وفي ذلك اليوم اجتمعت ببعض المهاجرين من أهل تلمسان كانوا نازلين هناك، وقد فقدوا ما بأيديهم، كما كانوا فاقدين المعين أيضاً، وقد حصل لهم من الأنس عند الإجتماع بنا ما أنساهم الشدة التي كانوا فيها، وقد كنا لهم سبباً في محل المبيت وفيما يخصهم في تلك المدة. وفي اليوم الثالث سمعت منادياً ينادي لمن يريد الرحيل إلى الأستانة ويذكر أن الباخرة تلركب إليها بقيمة زهيدة، وأنه يذهب قبالة. فتشوقت لزيارة دار الخلافة، وظهر لي ما ربما أن أدرك من العلم ما أنا إليه في احتياج، فطلبت أحداً من أبناء عمي أن يذهب معي فوعدني بالذهاب غير أنه امتنع من الركوب لما رآه من هيجان البحر وتلاطم أمواجه، لأنه كان على حال لا يتأتى فيه السفر وكفى أنه فعل ...

ولا تسأل عن ركوبنا وكيف كان حاله، ولما استقررت على ظهر الباخرة أخذت أتخيل وأتذكر بم نا مستعين على هذا السفر؟ فوجدت لا شيء أتأنس به غير الإعتماد على الله.

دخلت الأستانة بعدما كابدت من ألم هيجان البحر ما كان يقضي على حياتي، والذي زادني أسفاً أنني لم أجد بالأستانة في ذلك الحين ولا أنيساً يأخذ بيدي، ولقد اضطررت حتى لعبارة التحية لما كنت أجهله من اللغات التركية، وفي ذات يوم كنت أجول طرف البلدة، وإذا برجل صافحني وحياني بلسان عربي مبين، فسألني عن إسمي وعن بلدي فنسبت له، وإذا به هو أحد الفقهاء الجزائريين يتصل نسبه بالنسب الشريف، وكنت يومئذ حريضاً على الزيارة لدار الخلافة فاستعنت به، فكان خير مُعين على الغرض المذكور، غير أني لم أشف غليلي منها لتكوين الحواديث الخلافية التي كانت على وشك الإندلاع، فيما بين الأمة التركية وشبابها الناهض، أو المصلح كما يقولون، وكان من رؤساء هذه الحركة أفراد معدودون أبعدتهم الحكومة عن سُلطانها، فانتشروا في بلاد أوربا وأسسوا الجرائد والمجلات، وتجردوا لانتقاد الحكومة وكشف عوراتها من بين الدول الأجنبية، فوجد المغرضون بتلك الحركة العوجاء نوافذ وأبواباً فتسربوا منها إلى قضاء حاجتهم، فكان من قضاء الله على دار الخلافة أن وقع القبض على مالكها وزج به في السجن، وتمادى الشباب الناهض على عمله دون شعور ولا مبالاة إلى أن بلغوا بغيتهم آخرا، واتضح الصبح لذي عينين من عنوان النهوض والوطنية والإصلاح، ولا أزيدك بسطة، وفي حركة الكماليين ما يُغنينا عن تتبع النوازل فقرة فقرة.

تيقنت أن ما أريده من المُقام بتلك الديار غير متيسر، لأسباب أهمها ما تفرسته من انقلاب المملكة إلى الجمهورية، ومن الجمهورية إلى الإباحية، فقفلت راجعا إلى الجزائر مكتفياً من الغنيمة بالإياب، وفعلاً لم يرتح بالي ولم يسكن روعي إلا في اليوم الذي وطئت فيه تراب الجزائر، وحمدت الله على ما كنت أستحسنه بالطبع من عوائد أُمتي، وجمودهم على عقيدة آباءهم وأجدادهم، وتشبثهم بأذيال الصالحين.

انتهى ما وجدته مكتوباً بعبارته، وتتميماً للفائدة نذيله بما في علمنا من يوم قُدومه إلى اليوم الذي ختمت فيه أنفاسه الطاهرة.

رجع رضي الله عنه من جولته تلك وكتابه القديم المسمى "المنح القدوسية" قد تم طبعه، وانتشر ذكره عند كثير من الناس.

أما الأستاذ فمنذ أن استقر به النوى، لم يزل معتكفاًُ على تدريس الفقه والعربية، وبث الهداية الإسلامية من بين أبناء الملة ورجالها المؤمنين، وعلى إثر هذا العمل انتشرت نسبته في عدة بلدان، خصوصاً في البوادي حول مدينة غليزان، ومدينة تلمسان، وقد بلغ أمره فيها أن صارت أتباعه تُعد بالمئات، وقد شهد له فيها بكرامات عديدة، وفيوضات ربانية، حتى كان في مجلسه من يصعق من خشية الله، وفيه من يفتح عليه بمجرد نظرة أو عطفة من عطفاته، وإن كثيراً ما بديوانه من القصائد كان منشؤه بمدينة تلمسان، وكانت أهل تلمسان تُجله كل الإجلال، سواء في ذلك مشايخها وفقهاؤها وذوو الفضل من تجارها، الأمر الذي لم يكن لغيره من معاصريه.

وفي تلك الأيام أيضاً ألف كتابه المسمى ب"لباب العلم في تفسير سورة والنجم" فجاء من أكمل ما ينتفع به المنتسب، ويرغب فيه الراغب من مرضاة الله، وقد كثر تردده في ذلك التاريخ على مدينة تلمسان حتى كان يزورها المرتين والثلاث في السنة، ويكاد يستغرق في كل زيارة ما يقرب من نحو الشهر أو الشهرين بتمامها، وإن اليوم الذي كان ينزل فيه بين أهلها يكون يوماً مشهوداً من بين الناس، بحيث كانت تغص فيه محطة القطار بالمنتظرين، وكان يُقابل فيها بكل حفاوة وإكرام.

الصفحة 6 من إجمال 6

الصّفحة الأولى << الصّفحة السابقة